الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بعد أن رُزقت بالعمل أصبحت أشعر بالضيق وأتمنى البقاء في البيت!

السؤال

السلام عليكم.

أعمل في المستشفى بنظام غير مريح، ليلاً ونهارًا، وأحيانًا أعود من العمل في أوقات متأخرة من الليل، ولا أجد من يوصلني إلى المنزل، فأضطر إلى الاتصال بمواصلات خاصة مع رجال لا أعرفهم، وأيضًا في النهار أتنقل بمواصلات مختلطة، وهذا يسبب لي قلقًا شديدًا، وبكاءً في بعض الأحيان، وأصبحت أشعر بإرهاق نفسي كبير بسبب طبيعة العمل، والاختلاط، والتعب المتواصل، والخوف أثناء التنقل.

في الفترة الأخيرة بدأت أدعو الله أن يرزقني زوجًا صالحًا يعينني على طاعة الله، حتى أستقر في البيت، وأتفرغ لشؤوني الأسرية، ويكون سببًا في استقراري وسكينتي، لكنني أتساءل: هل هذا الدعاء يعتبر كفرًا بالنعمة، أو عدم رضا بالرزق الذي قسمه الله لي؟

كنت من قبل أؤمن أن المرأة سلاحها هو عملها، وكنت أدعو الله بحرارة حتى يرزقني هذا العمل، وفعلاً استجاب الله لي، لكن بعد مرور الوقت تغيرت مشاعري تمامًا، وأصبحت لا أطيق عملي، وأشعر بضيق شديد كلما تذكرت أن عليّ الذهاب إليه.

أنا مؤمنة بأن الله على كل شيء قدير، وأقوم بكل ما أستطيع من أعمال تقوي الإيمان، مثل: قيام الليل، والتهجد، والاستغفار، لكن رغم ذلك لا يزال القلق والخوف يلازمانني، ولا أستطيع ترك عملي الآن؛ لأنني درست وتعبت كثيرًا من أجله.

لقد حلّ الشك في قلبي: هل ما أدعو به ليس من نصيبي؟ هل أنا أتوهّم، أو أطلب شيئًا لم يقدّره الله لي؟ لأنني في كل مرة أقرر التوقف عن الدعاء أجد نفسي مندفعةً إليه أكثر، أقف بين يدي الله بقلب أقوى، وألحّ أكثر، وكأن الدعاء يجذبني إليه رغم خوفي وحيرتي.

أصبحت حائرةً جدًا، والقلق يحيط بي من كل جانب، وأشعر أحيانًا بقلة الصبر من كثرة الانتظار والتعب النفسي.

زاد عليّ القلق أكثر بسبب تأخر استجابة الدعاء، مع أنني أعلم أن الله حكيم، ولا يرد دعاء عبده، ولكنني متعبة نفسيًا وجسديًا، وأحيانًا أشعر أن قلبي لا يحتمل هذا الانتظار، فماذا أفعل؟ وهل هذا الشعور بالضيق والشك والقلق يدل على ضعف إيماني، أو عدم الرضا بما كتبه الله لي؟ وكيف أجد راحة قلبي وسكينة نفسي وأنا بين نارين: نار الرغبة في الراحة والاستقرار، وتكوين أسرة، ونار الخوف من أن أكون غير شاكرة لما أنعم الله به عليّ؟

ماذا أفعل؟ وهل تغير رغبتي من العمل إلى الاستقرار في البيت يعتبر سوء ظن أو نقص إيمان؟

جزاكم الله خيرًا، وأرجو منكم الدعاء لي، والتوجيه والنصح.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أسماء حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك -ابنتنا الفاضلة- في الموقع، ونشكر لك الاهتمام وحسن العرض للسؤال، ونسأل الله أن يقدر لك الخير، وأن يوسع لك الرزق، وأن يكتب لك السعادة، وأن يعينك على الاستقرار وإنجاب الصالحين والصالحات، هو وليُّ ذلك والقادر عليه.

لا إشكال أبدًا في الاستمرار بالدعاء، والدعاء سلاح المؤمن، والشعور الذي وصلت إليه هو الشعور الصحيح والشعور الفطري؛ فإنه ما من امرأة إلَّا وتتمنى أن تعود إلى بيتها لتؤسس أسرة، قالت المرأة الغربية: "خذوا شهاداتي كلها، وأسمعوني كلمة ماما"، فما ذهبتِ إليه هو الفطرة، وهو الصواب، واستمرارك في العمل أيضًا لا إشكال فيه؛ لأن هذا كله من تقدير ربنا القدير سبحانه وتعالى.

ووجود الزوج -سواءً سمح لك بالاستمرار في العمل أو توقفت لتكوني ربة منزل، وهو يخدمك- في كل الأحوال عون للمرأة على الاستقرار والسعادة، وإشباع الجوانب التي تحتاجها، وهناك هتاف فطري في نفوس النساء والرجال، وهو هتاف الأبوة والأمومة.

والذي يحصل منك لا إشكال فيه أبدًا من الناحية الشرعية، ولا يعبِّر عن اعتراض على قضاء الله وقدره، بل هو فرار من قدر الله إلى قدر الله، والفقيه هو الذي يعامل أقدار الله بأقدار الله، والدعاء سلاح مهم، وهو من قدر الله -تبارك وتعالى-، فاستمري في الدعاء، وتعوذي بالله من شيطانٍ لا يريد لك الخير، واعلمي أنك بالدعاء مأجورة في كل الأحوال.

وما لنا لا ندعو ربنا وقد وعدنا بالإجابة، وأمرنا بالدعاء ليستجيب لنا، فقال: {‌ادْعُوا ‌رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، وقال: {‌وَقالَ ‌رَبُّكُمُ ‌ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وقال في آيات الصيام: {وَإِذا ‌سَأَلَكَ ‌عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، وقال ﷺ: «إِنَّ ‌الدُّعَاءَ ‌هُوَ ‌الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.

وقال ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ ‌يَدْعُو ‌بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا».

فما من مسلم -أو مسلمة- يدعو ربَّه إلَّا أعطاه الله بدعوته إحدى ثلاث:
• إمَّا أن يستجيب الله دعوته.
• أو أن يَدَّخر له من الأجر والثواب على هذا الدعاء.
• أو أن يرفع عنه من البلاء النازل بهذا الدعاء.

فلا تتركي الدعاء أبدًا، وكوني كما قال ابن الجوزي: "كانوا يسألون فلا يجابون، وهم بالمنع راضون.. فإن انبسط أحدهم بسؤال فلم ير الإجابة، عاد على نفسه بالتوبيخ، فقال: ‌مِثْلُكِ ‌لا ‌يُجَاب! وربما قال: لَعَلَّ المصلحة في منعي"، أو قال: "كانوا يسألون الله فإن أعطاهم شكروه، وإن لم يعطهم كانوا بالمنع راضين، أحدهم يلوم نفسه فيقول: مثلك لا يُجاب"، هنا يبدأ التصحيح والاستغفار، ثم يكرر الدعاء، أو يقول: "لعلَّ المصلحة في ألَّا أُجاب".

فالدعاء عبادة، فلا تتوقفي أبدًا عن الدعاء، ونحن كُلِّفنا بالدعاء، أمَّا توقيت الإجابة أو عدمها؛ ففي كل ذلك أنت رابحة، وتوقيت الإجابة بيد الله، ولكل أجل كتاب.

إذًا: استمري في الدعاء بلا حرج، ومن حقك أن تطلبي الحياة الكريمة التي فيها الاستقرار، وتسألي الله أن يرزقك بالزوج الصالح الذي يغنيك عن هذه الأتعاب، لكن حتى يحصل ذلك حافظي على عملك، واجتهدي في أن تجدي زميلة تكون معك، وحاولي تغيير أوقات الدوام إن استطعت، واحتاطي لنفسك وعِرضك، وافعلي ما فيه حماية وصيانة لك.

لكن ليس في الشرع ما يدعوك إلى ترك العمل، وليس في الشرع ما يدعوك إلى الندم على هذا الذي حدث، وليس في الشرع ما يمنعك من الاستمرار في الدعاء، وليس في دعائك أي اعتراض على ما قدّره الله تبارك وتعالى.

أمَّا عدم الرضا؛ فكل هذا من إيحاء الشيطان الذي همّه أن يُحزن أهل الإيمان، يريد أن يُشوش عليك، وباب الدعاء مفتوح، ورحمة ربنا الرحيم تغدو وتروح، والإنسان رابح ما دام يرفع أكف الضراعة إلى الله تبارك وتعالى، والنبي ﷺ يبشرنا فيقول: «لَا يَزَالُ ‌يُسْتَجَابُ ‌لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ».

فلا تتركي الدعاء؛ فإن هذا يُفرح عدوّنا الشيطان، والدعاء عبادة، والله تبارك وتعالى «حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي ‌مِنْ ‌عَبْدِهِ ‌أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَهُ، فَيَرُدَّهُمَا صِفرًا- أَوْ قَالَ: خَائِبَتَيْنِ» يعني: خاويتين.

فتوجهي إلى رب رحيم بقلب حاضر، وبثقة ويقين، وبإلحاح، واختاري أوقات الإجابة، واستمرّي في الدعاء، قدّمي بين يدي دعائك الثناء على الله، ثم الصلاة على النبي ﷺ، ثم ارفعي حاجتك إلى قاضي الحاجات، ثم اختمي بالصلاة على النبي ﷺ.

نسأل الله أن يُقدّر لك الخير ثم يرضيك به، وأن يُلهمك السداد والرشاد، هو وليُّ ذلك والقادرُ عليه.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأكثر مشاهدة

الأعلى تقيماً